رواية أقدار - المقدمة
في عالمين متباعدين، كبرت نرجس بين دفء عائلة احتضنتها، ومَحبّة أرضٍ علّمتها الصبر والحكمة.
وفي مدينة أخرى، كانت فرح ترسم عالماً من الألوان، تحاول أن تملأ بفنّها فراغاً لا تعرف مصدره.
لم تلتقيا يوماً، لكن بينهما خيط خفيّ يشدّ روحيهما نحو بعض، خيط بدأ بحلم يتكرر منذ الطفولة، وبصوت مجهول يهمس في الليل، وبشعور غامض يطارد إحداهما ويكاد يخنق الأخرى.
عندما تتحرك الأقدار، تتكشف الأسرار، وتتقاطع الطرق، وتنهار حقائق ظُنّت راسخة.
وتدرك كل واحدة منهما أن حياتها لم تكن يوماً ملكاً لها وحدها، وأن الماضي الذي ظنت العائلتان أنه دفن إلى الأبد، يعود الآن ليغيّر كل شيء.
في رواية تمزج الغموض مع الإنسانية، والدراما مع حنين الجذور، تتبع "أقدار" رحلة روحين فُصلتا قسراً، وقادتهما الحياة من جديد نحو الحقيقة.
رواية أقدار روحان في مرآة واحدة
في قرية في لبنان ولدت شقيقتان توأمتان وانفصلتا حين ولادتهما والان تبلغان من العمر اثنتين وعشرين سنة دون أن تعرف إحداهن شيئا عن الأخرى حيث تم تبنيهم لحظة الولادة.
فرح تم تبنيها من قبل زوجين عطوفين، أشرف وليد الذي يعمل مديرا لمطبعة في بيروت وزوجته جمانة الكامل وتعمل معلمة لرياض الأطفال وتحب التعامل معهم كثيرا.
لم يرزقهما الله بالاولاد فتبنيا فرح وأصبحت فرحة حياتهما. تعيش العائلة في شقة وسط بيروت حيث يعكس ديكور المنزل الحس الإبداعي للسيد أشرف والسيدة جمانة.
كانت الشقة بسيطة لكن الذوق الذي تم اختيار الاثاث به كان رفيعا ولوحات الطبيعة النابضة بالحياة منتشرة على جدران الشقة، وكانت هناك لوحة في وسط الصالة رسمها أشرف بيده، اللوحة لفرح في صغرها وهي تجلس في حجر جمانة.
الى جانب أشرف جمانة كان لها لمساتها الخاصة بها مثل الشراشف المطرزة يدويا وباقات الزهور الصناعية التي عملتها بنفسها.
كان أشرف يحب الرسم وقد خصص إحدى غرف الشقة لممارسة هوايته المفضلة مما جعله ينمي هذه الموهبة لدى فرح فأصبحا يقضيان الوقت في أيام العطل في غرفة الرسم.
كانت فرح فتاة فاتنة بشعرها الأسود و بشرتها البيضاء وعيونها النرجسية تشع نشاطا و مرحا. نشأت وهي محاطة بعائلة تحب الفن، اصبحت الان في عمر الثانية والعشرين في المرحلة النهائية لكلية الفنون الجميلة وتخصصت في قسم الرسم والنحت.
استيقظت فرح في يوم عطلتها متأخرة، فوجدت أمها في المطبخ تُعد الفطور، ورائحة الزعتر المحمص تعبق في المكان.
قالت فرح وهي تتثاءب:
— صباح الخير يا أمي.
ابتسمت جمانة:
— صباح النور يا حبيبتي. لم أرد إيقاظك، إنه يوم عطلتك.
جلست فرح وقالت مازحة:
— لكني لا أدرس الطب يا أمي كي أحتاج كل هذا النوم! كان يمكنك إيقاظي لأساعدك.
— يكفيني أنك مشغولة بمشروع تخرجك هذه الأيام. لا أريد أن أرهقك.
دخل أشرف وهو يعدل نظارته:
— صباح الخير يا فنّانتَي المستقبل والحاضر.
— صباح النور يا أبي… هل ستساعدني اليوم في المشروع؟
جلس أمام الطاولة وقال بخفة ظل:
— بالتأكيد… لكن بعد الفطور. المعدة أولاً، ثم الفن.
حضّرت جمانة المائدة وقالت:
— تفضّلا قبل أن يبرد الشاي.
بدأ أشرف يأكل وهو ينظر إلى فرح:
— أخبريني، أين وصلتِ في مشروعك؟
تنهدت فرح بقلق خفيف:
— المشروع صعب يا أبي… علينا أن نُقدّم عملاً مجسّماً يعبّر عن "الهوية الفنية الشخصية". قررت أن أصنع مجسّماً كبيراً لمزرعة لبنانية قديمة باستخدام الورق المعجّن، لكن العمل يحتاج وقتاً طويلًا ودقة عالية.
رفع أشرف حاجبيه باهتمام:
— اختيار قوي. التفاصيل في البيوت القديمة ليست سهلة، والنوافذ القوسية، والحجارة، كلها تحتاج وقتاً.
— أعلم، ولذلك أريد مساعدتك في تحضير المواد الأساسية والبُنى الخشبية الصغيرة.
ضحك أشرف وقال ممازحاً:
— طبعاً، يجب أن يكون مشروعك أجمل من مشروع طارق، أليس كذلك؟
احمرت وجنتاها:
— بابا! لا تفتح هذا الموضوع!
تابع مداعباً:
— ماذا؟!
إنه شاب موهوب، وروحه في لوحاته تشبهك.
تدخلت جمانة وهي تبتسم بخجل لطيف:
— كما أنني أسمع من غرفتي مناقشاتكم الليلية الطويلة عن الفن… يبدو أنه يفهم أسلوبك جيداً.
قالت فرح بسرعة:
— دعونا من طارق… هل ننتهي من الفطور لنبدأ العمل؟
نهض أشرف ورافقها إلى غرفة الرسم.
![]() |
| فرح |
بدأت فرح بتشكيل أساس المزرعة بعناية، بينما ساعدها والدها في تقطيع الكرتون وخَلْط المعجون. كانت الغرفة مليئة برائحة الغراء والألوان، والضوء يدخل من النافذة بشكل جميل.
وبينما تعمل، بدأت قطتهم "لوزة" بالتجول وسط الأدوات. وقبل أن ينتبه أحد، ألصقت القطة قدميها بوعاء صغير من الورق المعجّن. وعندما حاولت الهرب، التصق بعض الورق بفروها.
نظرت فرح إليها وصدمت للحظة، ثم انفجرت ضاحكة:
— يا إلهي! صارت لوزة جزءاً من المشروع!
دخل أشرف في نوبة ضحك لا تنتهي، بينما أسرعت فرح لتصوير القطة التي تحولت لقطعة فنية متحركة.
— قال أشرف وهو يضحك حتى دمعت عيناه:
— ممتاز! سنضيفها كعمل جانبي بعنوان: "الفن يُلاحق من يحبه!"
ضحكت فرح وقالت:
— أتمنى ألا تنقص الأستاذة درجاتي بسببها!
رواية أقدار الفتاة التي يحرسها حلم
نَرْجِس كانت تحت رعاية نبيل حمزة وزوجته بثينة سامي، صاحبي مزرعة جميلة في ضواحي المدينة.
المزرعة كانت كأنها لوحة، بيوتٌ صغيرة مسقوفة بالقرميد، أحراش من الزيتون والسنديان التي زرعها نبيل بيده، وبساتين ورود تُغنّي لها الطيور في الصباح. كان في المزرعة قطيع من الغنم وأبقار وحيوانات أخرى تعطي للمكان حيوية ودفءاً ريفياً.
نشأت نرجس في عائلة تُحب الأرض وبساطتها؛ تعلّمت منهم قيمة العمل الجاد واحترام الطبيعة. غمرتْها هذه البيئة بحبٍّ للأرض فاختارت دراسة الهندسة الزراعية ليكون هدفها تطوير المزرعة وتحويل حبّها لعملٍ مُنتج. كانت نشيطة ومتفائلة وحنونة بطبعها، تحب العمل بين الحقول بقدر ما تحب القراءة والرسم أحياناً.
كان منزلهم واسعاً نوعاً ما، بواجهة حجرية ونوافذ مقوّسة طويلة تُطل على الحقول.
بثينة، زوجة نبيل، سيدة منظمة للغاية؛ كل شيء في مكانه، وتتفنّن في الخياطة والطبخ وإعداد البيت بدفء. لم يرزق الزوجان بأولاد فتبنيا نرجس، واسماها نبيل تيمّناً بزهر النرجس الذي تحبّه بثينة.
انضم إلى العائلة بعد فترة، وسام، ابن أخ نبيل، بعدما فقد والديه وإخوته في حادث. أحضره عمه إلى المزرعة ليجد ملاذاً ودفءً جديداً، ووجد فيه وسام بيتاً حنوناً ويداً راعية.
في البداية كان شاحباً وحزيناً، لكنه بمرور الوقت تأقلم مع الحياة الريفية؛ ساعده نبيل وبثينة في ترتيب غرفة صغيرة له، وشاركت نرجس معه واجباتها الدراسية والحقول، فأصبحا رفيقين في العمل والحياة.
وسام كان يكبر نرجس بسنة؛ حلمه القديم أن يصبح طيّاراً، لكنه بعد ما مرّ به من فقد فضّل لفترة طويلة البقاء قريباً من العائلة والمزرعة.
مع ذلك، ظل حلم الطيران يلوح في ذهنه، لكنه قرّر مبدئياً أن يتابع دراسة الزراعة ليبقى بقرب نرجس ويشاركها الطريق.
الحبّ البسيط للريف والأرض، وحنان العائلة، وروح نرجس العفوية شكّلوا معاً جسراً جعل وسام يتأقلم ويعيد بناء ذاته شيئاً فشيئاً، بينما بقيت في الخلفية نبرة حنين ربما تعود يوماً لحلمه القديم.
![]() |
| نرجس ووسام |
في صباح ربيعي نقي، استيقظت العائلة مبكراً كالعادة. كانت بثينة قد أنهت تجهيز المائدة حين رفعت صوتها من المطبخ:
— نرجس! أين اختفيتِ يا ابنتي؟
جاء صوت نرجس من الخارج، لاهثاً قليلاً:
— كنت أحضر البيض من المزرعة… نسيت أن أقول لكِ.
دخلت وهي تمسح يدَيها بثوبها، فحدّقتها بثينة بعتاب محبّ:
— وكم مرة قلت لك لا تتركي شعرك منسدلاً أثناء العمل؟ اربطيه يا بنتي.
ضحكت نرجس وهي ترفع خصلة من شعرها الأسود:
— لا أحب أن أربطه… أريد أن أتركه يتنفس. الهواء اليوم جميل!
— يتنفس؟! وهل صار للشعر رئتان؟ قالت بثينة وهي تضحك.
وقبل أن تجلس نرجس، نبهتها بثينة بسرعة:
— لا تلمسي الخبز! انتظري حتى يأتي أبوك ووسام. أين نبيل؟
— يحلب الأبقار، لكنه قال إنه سينتهي سريعاً.
تمتمت بثينة بقلق:
— كان يجب أن يدع وسام يقوم بذلك… نبيل لم يعد صغيراً.
اقتربت نرجس منها وربتت على كتفها:
— أمي، نحن الآن في سنتنا الأخيرة في الجامعة… ووسام يجب أن يحضر لامتحاناته أيضاً. لا نستطيع أن نحمله كل الأعمال.
— أعلم… لكن وسام واحد منا، ولا أهل له غيرنا، لا بأس لو ساعد قليلًا.
![]() |
| نرجس مع حيوانات المزرعة |
في تلك اللحظة دخل نبيل يحمل قارورة الحليب الطازج، فهتفت نرجس بفرح:
— أعطني إياها يا أبي! سأضعها في البراد.
غسل نبيل يديه وقال وهو ينظر نحو الباب:
— تأخر وسام اليوم… يبدو أنه لم يستيقظ بعد.
أجابت نرجس بسرعة وكأنها تدافع عنه دون قصد:
— لقد تعب كثيراً البارحة… بقينا نقطف الزيتون حتى ساعة متأخرة.
ابتسم نبيل:
— الأمطار الليلة الماضية ستجعل الثمار أثقل… يبدو أننا سنحصل على زيت جيد هذا العام.
جلست العائلة إلى المائدة قبل أن تقول نرجس بحماس:
— لكن يجب أن نحضر عمالًا إضافيين يا أبي. لا يمكننا قطف كل المحصول وحدنا، خصوصاً أن زيادة كمية الزيت بسبب المطر ليست نظرية دقيقة.
ضحكت بثينة:
— ما شاء الله… منذ الصباح وأنتِ "نظريات"و"دراسات"!
ردّ نبيل مبتسماً:
— اتركيها يا بثينة، شهادتها الزراعية أفادتنا أكثر مما تتصورين.
لم يكد ينهي كلامه حتى دخل وسام وهو يفرك عينيه:
— صباح الخير جميعاً.
— صباح النور، قالوها معاً.
نظرت إليه نرجس:
— تأخرت اليوم… ماذا حصل؟
جلس ليأكل وقال بابتسامة خفيفة:
— لا أعرف… لم أشعر بنفسي إلا وأشعة الشمس على وجهي. يبدو أن السماء صفَت بعد مطر البارحة.
قال نبيل وهو يرتشف الشاي:
— إنه الربيع يا بني… يجعل النوم أحلى من العادة.
كان كل من وسام ونرجس مرتبطاً بالأرض ارتباطاً لا ينفصم. كانت علاقتهما تكبر و تتجذر كما تكبر أشجار المزرعة من حولهما.
يقضيان ساعات طويلة معاً في الحقول دون أن يشعر أحدهما بالوقت؛ تتناثر بينهما أحاديث صغيرة وأحلام كبيرة… ومع كل غروب، كان يبدو أن المزرعة تحفظ لهما وعداً خفياً بالمستقبل.
ورغم شغف نرجس بالعمل، لم تكن تخلو أيامها من المواقف الطريفة.
ففي إحدى المرات، وبينما تحاول إصلاح سور بيت الدجاج، التفّت خصلات شعرها الطويل بحزمة أسلاك. بدأت تحاول فكّ نفسها وهي تتمتم غاضبة، لكن الدجاج تجمع حولها وكأنها جزء من طقوسهم اليومية.
وفجأة راحت تقلد أصوات الدجاج محاولة إبعادها، ما جعل الدجاج يتحلق حولها باهتمام وكأنهم يناقشون مشكلتها.
وصل وسام في تلك اللحظة ورآها عالقة بين الأسلاك والطيور، فوقف يضحك بلا توقف:
— لو رأى الأستاذ في الجامعة هذا المشهد، لوظّفك فوراً في قسم “سلوكيات الطيور”!
رمت عليه نرجس نظرة حادة ثم انفجرت ضاحكة.
في تلك اللحظة، كان الضحك جزءاً من هواء المزرعة… عادة يومية لا تتخلى عنها هذه العائلة الصغيرة.
اقرأ ايضا قصة رسائل ورد وقلب سليم
مع مرور السنين، كبرت فرح ونرجس في عالمين مختلفين، كل واحدة في عائلة لا تشبه الأخرى، دون أن تدركا أن بينهما خيطاً خفياً يشدّ الواحدة نحو الأخرى.
فرح ازدهرت في بيت يمتلئ بالألوان واللوحات والخيال، حتى صار اسمها معروفاً في معارض الفن المحلية.
أما نرجس فكانت روحها تنبض بين التربة والهواء، تطوّر المزرعة مع وسام عاماً بعد عام، يبنيان البيوت البلاستيكية ويزرعان محاصيل جديدة بدافع شغفٍ لا يخفت.
في إحدى الليالي، كانت نرجس منهكة بعد يوم دراسي طويل. بمجرد أن وضعت رأسها على الوسادة، غفت… لكن نومها لم يدم طويلاً.
استيقظت فزعة وهي تلهث. سمعت بثينة صوتها من المطبخ، فأسرعت إلى غرفتها.
اقتربت منها وجلست بجانبها:
— ما بك يا ابنتي؟
قالت نرجس بصوت مرتجف وكأنها حاولت كتم الدموع:
— إنه نفس الحلم يا أمي… فتاة تشبهني تماماً… تقف أمامي وتقترب مني شيئاً فشيئاً، وكلما مددت يدي لألمسها تختفي فجأة. أشعر وكأنها تريد أن تقول شيئاً… أو أن تصل إليّ.
ربتت بثينة على يدها برفق:
— خيراً بإذن الله، لا تخافي. أحيانًا تعب الدراسة يُظهر الأشياء بشكل غريب.
لكن نرجس تمسكت بنظريتها:
— هذا الحلم يلازمني منذ طفولتي. لا أعتقد أنه مجرد إرهاق. أنا… أرى نفسي، لكنني في نفس الوقت أشعر أني أنظر إلى شخص آخر.
حاولت بثينة أن تخفي ارتباكها:
— لا تفكري كثيراً. سأحضر لك كوب ماء، وأريدك أن تحاولي النوم… أنت بحاجة للتركيز.
عادت ومعها الكوب. شربته نرجس ثم استلقت من جديد. همّت بثينة بالخروج، لكن صوت ابنتها ناداها بخوف طفولي نادر:
— أمي… لا تذهبي. ابقي معي قليلًا.
ابتسمت بثينة رغم قلقها وجلست بجانبها:
— حسناً يا صغيرتي… سأبقى معك حتى تنامي.
نامت نرجس بين ذراعي أمها، بينما بقي قلب بثينة يضطرب.
![]() |
| حلم نرجس |
في الخارج، كان نبيل منشغلًا بولادة إحدى البقرات، يساعده وسام والطبيب البيطري. ومع صراخ الولادة وأصوات الأبقار، كان وجه نبيل يضيء بحماس طفولي.
بعد نصف ساعة، ولدت البقرة بسلام. تنفس نبيل الصعداء، ومسح جبينه وقال:
— الحمد لله… دائماً أشعر وكأنني أرى معجزة كلما ولدت بقرة.
عاد إلى البيت مسرعاً، صوته يملأ المكان:
— بثينة! نرجس! أين أنتما؟
أشارت بثينة له عند الباب بخفض الصوت.
خرج معها إلى الممر وهمست له بجدية:
— لقد رأت الحلم مجدداً.
شحب وجه نبيل قليلًا.
— كنت أعلم… كلما كبرتْ، يزداد ظهور هذا الحلم.
— وأنا أكرر لها الكلام نفسه كل مرة… ولا أعرف إلى متى.
تنفّس نبيل بعمق ثم قال:
— بثينة… هل تعتقدين أننا يجب أن نخبرها الحقيقة؟
نظرت إليه بثينة بدهشة تملؤها خشية:
— ولِمَ الآن؟ ما الفائدة؟ أنت تعلم أن سماعها لهذا الكلام سيحطمها. نحن أهلها، ربيناها منذ يومها الأول!
— لكنها ذكية… وحساسة. وهذه الأحلام ليست عبثاً. لا يمكن إخفاء أمرٍ بهذه الأهمية للأبد.
ارتفع صوت بثينة قليلًا وهي تحاول السيطرة على نفسها:
— كيف نخبرها؟ نقول لها ببساطة إننا لسنا والديها؟ وإن والدها الحقيقي تركها؟
أتعلم كم سيؤلمها ذلك؟ هذا ليس سراً… هذا جرح عمر.
سكت نبيل، وعيناه تلمعان بمرارة:
— أنا لا أريد أن أؤذيها. لكن ما أخشاه أكثر… أن تكتشف وحدها. عندها لن تغفر لنا.
قالت بثينة بصوت منخفض:
— ولو سألت عن أهلها… من سنذكر؟ والدها اختفى وكأنه ابتلعته الأرض. إبراهيم وحده يعرف القصة كاملة، لكنه لم يتلقَ أي خبر منذ سنوات.
— ربما مات… أو ربما كان في خطر حين سلّمنا إياها. لم يكن طبيعياً في ذلك اليوم.
هزت بثينة رأسها:
— وهذا سبب إضافي لعدم إخبارها. لا نملك إجابات. لا نملك شيئاً… سوى حبنا لها.
صمت نبيل طويلًا، ثم قالت بثينة محاولة تخفيف الجو:
— بالمناسبة… كيف حال البقرة؟
ابتسم نبيل رغم شروده:
— بخير… هي وصغيرها.
لكن ذهنه لم يكن مع الولادة. كان غارقاً في فكرة واحدة فقط:
كيف يخبر نرجس الحقيقة… دون أن يكسِر قلبها؟
رواية أقدار - حين ترسم الروح ما تجهله ألوان لا تجد صاحبها
في تلك الليلة نفسها، كانت فرح جالسة في مرسمها الصغير. كانت الليلة هادئة بشكل غريب، والقمر ينعكس على الزجاج الملوّن الذي تجمعه منذ طفولتها.
انزلقت فرشاتها فوق اللوحة بسلاسة، لكنها توقفت فجأة حين شعرت بقشعريرة تسري في ذراعيها دون سبب.
حدّقت في اللوحة التي ترسمها منذ أسابيع… لوحة لوجه فتاة مجهولة.
كانت ملامح الفتاة تظهر بشكل مختلف في كل مرة، وكأن يدها تقودها إلى رسم شخص تعرفه دون أن تتذكر أين رأته.
اقتربت فرح أكثر من اللوحة وقالت هامسة لنفسها:
– لماذا أشعر أنني أعرفك؟ من أنتِ؟
مدّت يدها لتلمس الخد المرسوم، لكن إصبعها ارتجف فجأة.
شعرت كأن الفتاة في اللوحة تتحرّك… تبتعد خطوة صغيرة إلى الخلف.
تراجعت فرح بدورها وقد تسارع نبضها.
سمعت صوت والدتها يناديها من الصالة:
– فرح! حان وقت النوم يا ابنتي، لديك محاضرة مبكرة غداً.
تنفست بعمق ومسحت يديها مندهشة مما شعرت به، ثم أجابت:
– حسناً يا أمي… دقائق فقط.
لكنّ عينيها ظلّتا معلّقتين على اللوحة.
للحظة قصيرة، خُيّل إليها أنها ترى نسخة أخرى منها داخل الإطار، تحدّق بها بصمت… تقترب شيئاً فشيئاً.
ومع أول رمشة لها، اختفت الصورة الغريبة وعاد وجه الفتاة المعتاد.
همست فرح بصوت مرتجف وهي تطفئ الأنوار:
– ليس من الطبيعي أن أرى نفسي في لوحاتي… ماذا يحدث لي؟
![]() |
| فرح في المرسم |
أطفأت فرح الأنوار، لكنها قبل أن تغادر المرسم، التفتت نحو اللوحة.
للحظة واحدة… بدت ملامح الفتاة داخل الإطار أقرب مما تركتها.
تماماً كما كانت نرجس ترى فتاة تقترب منها في أحلامها تلك الليلة.
أغلقت الباب وهي تشعر بقلبها يخفق بلا سبب، ولم تعلم أن فتاة أخرى، في مكان آخر، كانت تستيقظ من حلم مشابه تماماً…
خرجت من المرسم بخطوات متردّدة، بينما بقيت اللوحة في الظلام، تحافظ على ملامح لا يعرف أحد أنها تتغيّر كلما نامت فرح…
يتبع….





